التحديث الاخير بتاريخ|الأحد, أبريل 28, 2024

أسئلة الشعر والأمكنة 

 

 
د. قيس كاظم الجنابي
1-
بدءاً أقول عن قراءتي لقصائد (وثيقة في الهواء) اني بريء مما كتبه الآخرون عنها، والتي وضع لها عنوان ثانوي هو (شعراء في قصائد)، ولكنني سأواجه إشكالية خاصة في هذه الكتابة، تحيلني الى:
1. ان المقدمة التي كتبها الصديق الصحفي ناظم السعدون وتشخص جوانب خاصة لها صلة بالتوثيق الصحفي، وربما التوجهات النقدية التي تنطلق من متابعة مستمرة للاسماء التي اختيرت قصائدها بهذه المجموعة.
2. ان القصائد هي لشعراء عديدين لايتشابهون في لغتهم وصورهم، وان تشابهوا في همومهم وصلتهم بالارض.
3. ان الاسقاطات القديمة التي تنتجها ترسبات القراءات حول هؤلاء الشعراء – بالنسبة لي على الاقل – لم يتبق منها شيء في ذاكرتي، لهذا انطلقت في التعامل مع هذه النصوص ببراءة خاصة، تشير الى أن ثقافتي النقدية ربما تقف عائقاً في هذه القراءة، او ان هذه القصائد بالضد من ثقافتي النقدية.
4. ان قراءتي هذه هي ليست ذات طبيعة احتفالية، او من قبيل اسقاط فرض حول ظاهرة شعرية ما، فهي بالتالي قد تتقاطع مع التصورات الاخرى.
5. ان ظاهرة التجمعات الثقافية مهمة جداً في الثقافة الجديدة، وخصوصاً وان العوائق التي تواجه الاتصال بين الادباء قد تذللت، واصبح بالامكان ان تشكيل تجمع ثقافي ان هذا التنوع يشكل عائقاً كبيراً بالنسبة للناقد الذي يتوخى الالتصاق بالنص. وانها تحاول ان تقوم نفسها خارج المصادر النقدية. وان هذه القراءة – ربما – لاتطمح ان تقوم قراءة مستفيضة عن جميع القصائد خارج النظريات الشعرية المعروفة.
-2-
في قصائد الشاعر ابراهيم داود الجنابي تعبير عن حزن عميق غير ظاهر للعيان، والقصيدة الأولى تحاول ان تتموضع في صمتها المتكين لكي تؤسس لها اسطورتها الخاصة، من خلال العلاقة الحية بين الشعر والاسطورة، وكأن تاريخ بابل القديم يتحول الى موثبات داخلية تحاول ان تكشف عن وجع الذات، وخراب الماضي والحاضر، ولان الشعر ضمير إرثه وحاضره، فانه لابّد ان يؤسس للقارئ محطات قادرة على التوهج من خلال ديمومة اللغة وكأن الشعر كيان يتألّق على وفق تراص بين الجمل والعبارات، ففي قصيدة (بيني وبينك برزخٌ وخمار) فالعنوان يحيل الى الموت، واصعب الامكنة التي تعيش الانسان بعد موته، والخمار شخص يبيع الخمر للمهمومين ليغيبوا عن الوعي، لهذا جاءت مفردات القصيدة ذات مواصفات اسطورية مثل (سندس، قوارير) أو مؤسطرة، وبهذا حقق الشاعر الاتصال مع الآخر المفترض، الآخر بوصفه كائناً يقرأ /يسمع/ يستوحي عبر الحلم أو غيره صورة لوجود آخر، وهو في هذا يحمل معه اسئلة المفترضة والمعلنة، فكأنّه  يحمل معه سؤال الوجود /سؤال الخليقة/ سؤال الحياة/ سؤال الموت، وهو مايحيل اليه العنوان، فثمة برزخ للموت، وخمار للغياب عن الوعي، وفي كلا الحالتين، نسي واقعه وحاضره، ولكنني بانتظار الاجوبة:
دعي لوم اسئلتي واختياري أرديه من (ليليث)
كي نزفها لعروق دمي المنحاز من مغامرات سبي المفردات
العتيقة التي تشرب من فوقها
الى ان يقول:
ما أنتِ تُشُكرين أصابع الخلود بعشبة المجنون وتعلقين فراديس الأنوثة فوق معابد
مخصبة بالأنين
لفي ذراعيك حيث لا أغطية وخلوات ترفدها تبقى من الاسئلة
ولأرواح الى كوننا الخزفي (ص2، وثيقة في الهواء، دار جان للنشر، المانيا 2012م). وتتصل هذه القصيدة بوضوح بقصيدة (فحيح الاسئلة) عبر عنوان اشكالي، يتضمن فكرة الاسئلة، ولكنها اسئلة تتصل بالاخص، لان الفحيح صوت خافت، لذا بدت محاولات كتابة هذه القصيدة أقرب الى اسئلة موجهة منه الى الآخر /المرأة/، وهنا يحصل اللقاء بين صورة المرأة، وهنا يحصل اللقاء بين صورة المرأة والافعى، في الموروث الانساني، ذلك ان الافعى (لدى اليهود) رمز ذكوري، ورمز للخداع، اما القصائد (غفلة أنها ري تدعمها السواحل، رؤوس معلبة، في السابع من صمتي، مرقبات بلا عدسات) اذ تنتهي قصيدة (رؤوس معلبة) بضربة امشية بلحظة في الاخصوصة، تشير الى الارث القديم الذي وثقته حكايات (الف ليلة وليلة) في بغداد، وعلى ضفاف دجلة.
ابرز ما يلاحظ على شعر ابراهيم الجنابي، انه يستلهم الارث الرافديني ويؤسس وجوده عليه، لان شخصية (ليليث) والعشبة تحيل الى تلك الاساطير، كما يحيل الى عشبة الخلود في ملحمة (كلكامش) في اشارة الى انّ الخلود مجرد وهم، وان الاسئلة المطروحة حولة مازالت بلا اجوبة، والجانب الدرامي في بناء قصيدة بوصفها مجموعة اسئلة مضمرة لانها تقوم على لغة شعرية غير مألوفة، تحاول ان تتوعل في حفرياتها البعيدة نحو الالتصاق بالابداع، لان التأسيسات الثقافية والتي انشأها، وهي تأسيسات مثاقفة وحداثة، ومحاولة لخلق اتصال حيوي بين القارئ والنص، وهو اتصال يواجه عقبات كثيرة.
-3-
الشاعر الآخر هو حسين الهاشمي، وهو شاعر مفتون بالنفي، او لنقل انه  شاعر رافض متمرد، لغته قائمة على خلق المضادات السائدة، بقلب النص ضد معناه، أو لغة من هذا القبيل تشير الى نوع من الإحساس بأن كل مايجري هو غير حقيقي /غير صحيح/ غير مرضٍ، ولغة الرفض تذكرني بلغة الشاعر المصري أمل دنقل الذي كان له مواقف مشهورة في رفض الاستسلام، وهذا الهاجس الواضح ضد كل ماهو سائد دفعه الى الشعور بهلامية المكان، اذ يقول في قصيدة (عناقيد يومية):
يعرف
ان المكان قبضة ضائعة
وهو حارس الفراديس،
يعرف
ان الزمان سؤال
لايكف عن الصغير…………….
الأسى
من دون ضجيج
من يوقظه من الحروب (ص29)
والسّؤال يشير الى ان لاشيء له ثبات، حتى الوثائق تحلّق في الهواء، والعالم بمحمله هو أمكنة بعيدة، محلقة، غير واضحة لان المكان هو الحقيقة الثابتة في العالم، اما الزمان فهو لحظة من لحظات المصادفات، يبرق ويتفجر وينطلق، وما يبقى يسير على وفق حقيقة الانسان وعلاقتة بالمكان.
اما الشاعر رياض الغريب، الشاعر الثمانيني، المشحون بطاقات من الحروف، او الاحلام، فهو الآخر يلوذ بالمكان، مشيراً الى ماعاناه سعد جاسم في منفاه، بقصيدته (أرضك شاسعة المعنى) وعنوان القصيدة نفسه يتشبت بالارض الواسعة، فكيف يشعر بالغربة في الارض الواسعة، اذ يقول مشيراً الى ذاته:
ماذا يقلق الشاعر دائماً
ماذا تريد منه مثلاً
ان يكون قطعة أثاث
مرمية في زاوية مهملة من المنزل
هو قمر يضيء
موسيقى تنحدر كشلال في الشّمال (ص41)
ان قصائده مسكونةٌ بالنفي والاسئلة والهواجس المتقرنة بالمكان، وهذا يعني ان يتعامل مع المكان بوصفه طارئاً عليه، لان العلاقة بين الانسان والمكان هي علاقة دائمة، واحساس بالانتماء، ولكن الظروف جعلت الكثير من الاسئلة امكنة مشحونة بالترقب.
وفقاً لهاجس العلاقة بالمكان تقول الشاعر رشا فاضل في قصيدتها (احجار):
لامكان للضوء في قيامة اللهب..
حجر على الطريق… يتعثر بالخطى..
حجر على نافذة الروح وهي تنفق آخر ضيائها
في أشكال شمعة تمجد الظلام.
لانه يمنحها كل هذا البهاء.. (ص54)
إذ تشير هذه القصيدة الى اشكالية علاقة الانسان بالمكان، وهي اشكالية نابعة من المؤثرات النفسية للحروب التي تجعل المكان رعب، او خوف وتوجس، ومفاجآت، وكأن الانسان العراقي يعيش خارج مواصفات الامكنة في العالم، لان عوالمه هي عوالم مهددة بالخوف.
-4-
اما قصائد الشاعر (شبنوار ابراهيم) فان هاجس الخوف في المكان تبدو أقل رفضاً وأكثر مصالحة، وكذلك يمكن ان نلاحظ بشكل محدود قصائد الشاعرة فليحة حسن لانها تمور بعواطف الذات الانثوية التي تطفح على السطح فلا تترك مجالاً للذات لان تبرز كيف تتعامل مع المكان، بوصف المكان بديلاً رمزياً للكون الوجود، بحيث تصبح اللغة كلمات مشحونة بطاقة قادرة على تصوير علاقة الوجود، بحيث تصبح اللغة كلمات مشحونة بطاقة قادرة على تصوير علاقة الوجود بالذات الانسانية، فهي تقول:
وقلت:
سأصنع منك زهوراً
وكنتُ نسيتُ اخضرار المساء
بعد جفاف الانوثة فيّ (ص88)
في حين تبدو قصائد مناضل التميمي رافضة لما يحيط بها، ليكشف عن المصير الذي ينتظره، وهو ان يغادر بقايا أمكنة، وان الانسان هو الذي يمثل الاجابة الكونية عن حقيقة الوجود، لذا يبدو وكأنهّ انسان يعاني إشكالية الخّوف من النهاية الموت الذي أحاق بانكيدو وكلكامش، بعد فشل محاولة الحصول على عشبة الخلود، لذا تجده يقول:
أنا خائف
أكثر من خوفي على بؤسي
آن أن او صد الباب احتفاء بالرقدة الأخيرة…
وان أقول لاصدقائي المحتفين بالحياة الهزيلة
لم نتعذب في هذا العالم بانتظار الآخرة… (ص103)
ان الشّعر يصنع وجوده من اللغة عبر بنيتها الداخلية التي تتعامل من أجل تكوين صورة شعرية، وخلق تشكيلات شعرية قائمة على استثمار الاجابات المطروحة لبناء تواشج بين دلالة اللغة ودلالة المكان، وهذا ما دفعه لان يختزل المواقف والاحداث ويجعلها مرتبطة بهِ ذاتياً.
طباعة الخبر طباعة الخبر ارسال الخبر الى صديق ارسال الخبر الى صديق

اضافة تعليق