التحديث الاخير بتاريخ|الجمعة, مارس 29, 2024

«نهاية رجل نظيف»: النموذج التركي والفساد 

علي عبد سلمان

محمد نور الدين

التهم الموجهة إلى المعتقلين من أبناء الوزراء ورجال الأعمال ومدراء المصارف، وهي الفساد والرشى، هي بالضبط «كعب أخيل» رئيس الوزراء رجب طيب اردوغان.

وأمر القضاء التركي، أمس، بسجن ثمانية أشخاص من بين عشرات أوقفتهم في اسطنبول وأنقرة المديرية المالية في الشرطة. وبعد يوم من إقالة اردوغان لحاكم شرطة اسطنبول حسين جابكين أقال 14 ضابطا من المديرية العامة في شرطة أنقرة. وفي المجموع أقيل نحو خمسين ضابطا ومديرا في إطار هذه الحملة التي بدأت الثلاثاء الماضي.

إلى ذلك، واصلت الليرة التركية انخفاضها مقابل الدولار واليورو بعد وقف السياسة النقدية التيسيرية للاحتياطي الفدرالي الأميركي، التي كانت تدعم الاقتصاد التركي وفضيحة الفساد التي هزت الحكومة التركية.

وبمعزل عما إذا كان اردوغان على علم أم لا بعمليات الفساد المنتشرة على نطاق واسع، فإن ما جرى يطوي صورة أسطورية له كزعيم «نظيف الكف»، ذلك أن المشاهد التي عرضتها قنوات التلفزة التركية عكست لوحة غير مسبوقة وفضائحية عن «حزب العدالة والتنمية»، بحيث لا يمكن أن تكون قيادة الحزب ورأسها أردوغان على غير علم بها. فالفضيحة طالت على الأقل أربعة وزراء حتى الآن، والشائعات تتحدث عن احتمال اعتقال آخرين لهم صلة بأربعة وزراء آخرين.

وعمليات الاختلاس والفساد والرشوة التي كشف عنها ولم تكتمل فصولها بعد، والتي تعد بالمزيد من المفاجآت، ليست بحجم ضئيل، بل قاربت المئة مليار يورو، وهو رقم لا يمكن إخفاؤه عن قيادة الحزب بهذه السهولة. كذلك فإن الطريقة التي تم التعامل بها من جانب المعتقلين مع الأموال كانت خارج أي معيار أخلاقي يمكن أن يركب على قوس قزح.

على سبيل المثال، مدير مصرف «الشعب» خلق بانكاسي خبأ على الأقل 4.5 ملايين يورو في علب الكرتون التي تباع بها الأحذية، ووضعها على رفوف مكتبة المنزل بين الكتب للتمويه. وفي المنزل عثر على سبع آلات خاصة بتعداد الأموال، كتلك الموجودة في المصارف، وبعضها في غرف النوم، على اعتبار أن المال وفير ولا يمكن تعداده يدويا.

بالصورة والصوت، وأحيانا بالصوت، عرضت القنوات التركية التسجيلات الهاتفية وبكاميرات المراقبة أحيانا لنصوص المكالمات بين المتورطين بالفضائح.

تفصيل آخر، وهو أن «العدالة والتنمية» جاء إلى السلطة محاولا تقديم نموذج جديد في الحكم عبر تلك الكادرات الشابة التي تلقت علوما حديثة في الغرب، وتحمل قيمه في المحاسبة والمساءلة وخدمة تركيا الجديدة.

ايغمين باغيش هو أحد النماذج على هذه النخبة الجديدة، حيث عين في الحكومة الحالية مسؤولا عن العلاقة مع الاتحاد الأوروبي وكبير المفاوضين من أجل العضوية في الاتحاد. باغيش هذا الذي يفترض به أن يكون الواجهة الجاذبة لصورة تركيا الجديدة والجميلة ليس سوى أحد الوزراء الأربعة الذين لهم علاقة بعمليات الفساد الكبرى التي انفجرت في تركيا. كبير المفاوضين تحول إلى كبير مختلسين.

ليس من المبالغة، بعد كل هذا، القول إن «أسطورة» الاستقامة والحداثة والتنمية ونظافة الكف التي جاء بها «حزب العدالة والتنمية» وأردوغان قد باتت من الماضي.

الأمر الخطير الآخر على مكانة الحزب وقوته وزعيمه أنها المرة الأولى التي يصطدم الإسلاميون ببعضهم البعض. جماعة فتح الله غولين كانت من عوامل انتصارات اردوغان. حافظ الطرفان على حد أدنى من العلاقات وإخفاء الخلافات، على اعتبار ضرورة إنهاء خطر العسكر والعلمانيين. لكن ما يجري اليوم أنهى ذلك الزواج، بل أدخل الحالة الإسلامية في مرحلة من الصراعات الداخلية سوف تضعف الفريقين، وخصوصا الأكثر حاجة للآخر، أي «العدالة والتنمية». لا يتعلق الأمر باختلافات فكرية، بل بمنطق طغى على سلوك رئيس الحكومة منذ انتخابات العام 2011 والتي حصد فيها حوالي 49 في المئة من الأصوات. فرضت السلطة المطلقة منطقها بحيث تحول اردوغان إلى «طاووس» يعتقد انه في موقع يتيح له فعل أي شيء من دون احترام وجود الآخر، حتى لو كان صديقا أو حليفا واندفع في مغامرات داخلية وخارجية ليكون «السلطان الجديد» لتركيا المنتفخة وللمنطقة.

الاستئثار لا يولد سوى المزيد من الاستئثار. من هنا كانت انتفاضة تقسيم – جيزي في حزيران الماضي احتجاجا على الاستبداد والتسلط، قبل أن تكون اعتراضا على قطع بعض الأشجار أو تغيير المعالم العلمانية لساحة تقسيم. أما في الخارج فإن المنطق الإمبراطوري انتهى إلى تركيا لا صديق لها، ومعزولة وعاجزة وخارج أي تأثير.

لم تقف نزعة الاستبداد عند حد. بل طالت حتى أقرب المقربين لأردوغان عندما اختلف مع الرجل القوي في الحزب وأحد رموز الحركة الإسلامية في تركيا بولنت ارينتش حول المساكن الجامعية المختلطة، فأعلن ارينتش نيته اعتزال السياسة، بعدما ذكّر اردوغان بأنه ليس نكرة. ولم يوفر اردوغان حتى رفيق دربه عبد الله غول عندما عمل على استصدار قانون من البرلمان يمنع ضمنا غول من الترشح لرئاسة الجمهورية مرة ثانية، ما أوقع الرجلين في حرب الثقة المفقودة. لكن المحكمة الدستورية أبطلت القانون.

جماعة فتح الله غولين اختلفت عن ضحايا اردوغان أنها تملك النفوذ والقوة والمال والقاعدة، فلم تنحن لرغبة اردوغان إغلاق مدارسها المسائية، ورأت فيها بداية إنهاء نفوذها. الخلاف مع غولين لم يبدأ من هذه القضية. حزب العدالة والتنمية حمّل غولين وجماعته أيضا مسؤولية الوقوف وراء أحداث تقسيم، وبالتعاون مع اللوبي اليهودي والغرب.

الهروب من قضايا الفساد والاستبداد ومن العجز عن حل المشكلات الداخلية، مثل المشكلة الكردية أو العلوية، كان باعتبار السلطة للمعارضين أنهم مجرد أدوات في مؤامرة خارجية تريد قطع الطريق أمام تقدم تركيا، فغاب حس المساءلة والنقد الذاتي.

من الواضح أن المسار الانحداري الذي بدأ في تقسيم وجيزي، وسبقه الفشل في سوريا ومصر ومع السعودية، يتواصل وبسرعة أكبر من المتوقع. ولم يعد السؤال اليوم عن كيفية مواجهة اردوغان لهذا التحدي والخروج سالما منه. السؤال المركزي ليس كيف يمكن إنقاذ اردوغان بل كيف يمكن إنقاذ تركيا. فالترهل في البنية الفكرية لنخبة «العدالة والتنمية» والغرق في المزيد من الاستبداد والفساد باتا خطرا على تركيا، التي تحتاج أولا وقبل أي شيء آخر، للخروج من هذا المستنقع الآسن، إلى طي صفحة «العدالة والتنمية». أما كيف يمكن ذلك فهذه مسألة أخرى.

طباعة الخبر طباعة الخبر ارسال الخبر الى صديق ارسال الخبر الى صديق

اضافة تعليق